عند المفاضلة في السعادة بين الوقت الذي تمضيه في العمل مع ضغوطه وتكليفاته، ووقت الراحة حيث بإمكانك أن تسترخي كما تشاء مادًّا قدميك أمامك، وممسكا بيدٍ مشروبك المفضل وبالأخرى هاتفَك أو جهاز التحكم بالتلفاز… عند المفاضلة قد يتفق الكل على أن السعادة هي في الوضع الثاني.
لكن على عكس ما نعتقد تماما، قد يكون مؤشر السعادة أعلى عند وقت العمل وإنجاز المهام.
كنت في وقت ما مثلك تماما، أتعجب ممن يقول إن وقت العمل من أسعد الأوقات، وبخاصة عندما نتحدث عن العمل في ظروف مثل ظروفنا وبلاد كبلداننا، حيث أن السعادة أبعد ما تكون عنها!
في إحدى الدراسات أعطيَ بعضُ الأشخاص جهازا يرن في أوقات مختلفة يوميا، وعندها يجيب الشخص عن أسئلة مثل:
-
ماذا تفعل الآن؟
-
أين أنت؟
-
بم تشعر؟
وبالإجابة عن هذه الأسئلة يتبين للباحثين مستوى سعادة الأشخاص، ومستوى القلق والتوتر، ومستوى الضغط.
وكانت النتيجة صادمة! فقد وجد الباحثون أن الناس أسعد في أوقات عملهم!
أما عن أسباب هذه النتيجة فترجع إلى:
- أن هناك مقابلا ماديا محسوسا في مقابل ما تنجز من العمل، فمن منا لا يفرح عند حصوله على مال أو زيادة في راتبه، أو مكافأة عمل أو ترقية؟
- الشعور بالإنجاز، فالمخ يفرز هرمون الدوبامين المسؤول عن الشعور بالسعادة، وقد تحدثنا باستفاضة عن كيفية رفع مستوى السعادة في مقطع فيديو (كيف تزيد هرمونات السعادة)
- الشعور بالقيمة، فعندما تنجز عملا يتوقف إنجازه عليك تشعر بمشاعر إيجابية تجاه ذاتك، ويرتفع قدرُ نفْسِكَ في عينك.
- أن علاقات العمل سطحية وليست عميقة؛ فأنت غالبا لن ترتبط بمشاكل زملاء العمل عاطفيا بالقدر نفسه الذي يكون مع خاصّتِك كأسرتك وأصحابك. في وقت راحتك.
كما يعزو الباحثون السبب الأكبرللسعادة أثناء العمل بأن هناك احتمالا كبيرا للوصول لحالة الـ(FLOW) أثناء العمل مقارنة بوقت الراحة، لكن ما هي حالة الـ(FLOW)؟
يشرح Mihaly Csikszentmihalyi حالة (FLOW) في كتابه الذي عنونه بالاسم نفسه (FLOW) بأنها حالة الإندماج التام في تحدٍّ أو عملٍ ما، بما يتناسب مع مستوى مهارات الشخص، مما يدفع لمحاولة التغلب على العقبات والتحديات.
ففي العمل يواجه الشخص العديد من التحديات التي غالبا ما يكون مؤهلا للتغلب عليها، وحينئذ ففرصة الوصول لحالة الـ(FLOW) أعلى بكثير من الوصول إليها في وقت الراحة حيث لا عمل ولا مسؤولية عليك.
Mihaly Csikszentmihalyi
لكن يبقى السؤال، لماذا ننتظر بفارغ الصبر نهاية وقت دوام العمل؟ أليس العمل ممتعًا كما تقرّر؟
يرجع الإحساس بثقل العمل(ونعني هنا الإحساس فوق الطبيعي) لأسباب؛ منها طبيعةُ بيئة العمل في بلداننا ووقتنا الحالي؛ ففي العصر الحديث أصبح العمل مرادفا لـ”العبودية”؛ فبدلَ أن يكون العمل معينا على الحياة ويقتصر على بضع ساعات تجني منها دخلا معقولا أصبحَ العمل هو مركز الحياة، فصارت حياتنا وأوقاتنا مقسمة حسب وقت العمل؛ فحياة البشر اليوم أصبحت مرتبة وفق العمل؛ فهي إما “قبل العمل” أو “أثناء العمل” أو “بعد العمل”، بل وأكثر من ذلك؛ فغالبا ما نكون “على ذمة” العمل حتى بعد انتهاء الدوام الرسمي، فنجد أن رئيس العمل قد يكلفُّ ببعض الأعمال المطلوبة، بل وانتظار تسليمها بعد العودة إلى المنزل وقبل بداية يوم عمل الغد!
إذن ففي مجتمعات كمجتمعاتنا قد نستبعد الوصول إلى حالة الـ(FLOW)، فالحل في الوصول إلى تلك الحالة في وقت الراحة، وذلك يعني التخطيط الواعي لوقت الراحة وهو العامل الأهم ، فغالبا ما يغلب على أوقات الراحة والفراغ الانسياق وراء أي ترفيهيات وملهيات وما قد يعرض للشخص من مسلسلات وأفلام أو دعوات للقاء الأصدقاء.
ولا بد أننا جميعا مررنا بحالة من الفتور حيث تركنا أو قصّرنا في جدولنا اليومي، فأحسسنا بالنقص واختلال اليوم والمزاج السيئ، وانساقت نفوسنا وراء أي مشتتات وملهيات تزيد الطين بلّة.
لذا فكونُ الشخص هو من يخطط ليومه وحتى أوقات راحته يجعله يشعر بالتحكم في يومه وأنه الممسك بزمام أموره.
اقتراحات للوصول إلى حالة الـ(FLOW):
- لعبُ الكرة مع فريق في مستواك، أو ممارسة تمارين رياضية مع من يقاربك في المستوى، أو حتى لعب ألعاب فيديو بمستوى يناسبك، ولكن يُفَضَّلُ البعد عن الشاشات ما أمكن.
- تقليل المشتتات ما أمكن ذلك؛ وعلى رأسها مشتتات تطبيقات التواصل؛ فهي تصنع حالة من القلق والتوتر بما يؤثر على السعادة، وتوحي بأنك تنتظر شيئا هاما في كل دقيقة من يومك فيطوُلُ بك القلق ويلازمك التوتر على مدار يومك.
- تخصيص وقت للعمل، ووقت للراحة، وذلك يساعد على الوصول للمطلوب من وقت الراحة وهي الراحة نفسها! فطالما هناك اتصالات وتكليفات مستمرة من العمل حتى مع انتهاء الدوام فلن تحظى بهناء في راحتك، وهذا أشبه بشخص يوقظك من نومك كل نصف ساعة فتجد نفسك بعد عدة ساعات منهكا سيئَ المزاج مشتتَ التركيز.
إذن فالتعب يعطي الراحة معناها، فتخيّل فرحة عيد الفطر بغير رمضان، أو رمضان بغير العيد، وهي إحدى الفرحتين التي أخبر عنهما النبي صلى الله عليه وسلم “للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطرَ فرِحَ، وإذا لقي ربَّه فرحَ بصومه”.
وقد استقر هذا المعنى عند الناس منذ مئات وآلاف السنين، فنرى هذا المعنى في شطر البيت المشهور المنسوب للإمام الشافعي: ” وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ” والنَّصَبُ في اللغة هو العملُ الشديدُ، وكلما زاد التعب والاجتهاد زادَت الفرحة والسعادة عند بلوغ الراحة.
ويحسنُ أن نختم بمقولة جامعة لما فيها من فائدة عظيمة للإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – :
” المصالح والخيرات، واللذات والكمالات، كلها لا تُنال إلاّ بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلاّ على جسر من التعب؛ وقد أجمع عقلاء كل أمة على أنّ النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأنّ من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة.
فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمّل مشقّة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلاّ بالله “.